رحلة فارس الفنون الشعبية الفنان التشكيلي المتمرد رفيق شرف (الحلقة الثانية)
كارينا أبو نعيم
تثنى للفنان رفيق شرف أن يعود إلى بيروت سنه 1958 بعد إتمام تخصصه، وشاءت الظروف أن تكون الأحوال في حالة غليانٍ واضطرابٍ. فلم يشأ هذا الفارس العنيد أن يبقى خارج الضوء، فشارك في أحداث 1958 ، وحمل السلاح إلى جانب عشيرته وبلدته. وبعد أن هدأت أمور البلاد، سافر إلى إسبانيا لاستكمال دراسته، وجال في أرجاء أوروبا للاطلاع عن كثب على الحركة الفنية فيها، وأمضى ساعاتٍ طوال في متاحف فرنسا وإيطاليا وإسبانيا دارساً، منتقداً ومتفحّصاً النتاج الفني العالمي. كانت له وقفات طويلة أمام أعمال غويا وبيكاسو وغيرهم. وفي أوائل السبعينيات من القرن المنصرم، عاد رفيق شرف إلى بيروت من جديدٍ ليمارس التدريس في معهد الفنون الجميلة وهكذا بدأت رحلته مع الفن منتجاً ومدرّساً.
محطات ومراحل رافقت رفيق شرف في رحلته الفنية وقد كان لكل منها تأثير مباشر أو غير مباشر على نتاجه الفني. صنعت “المرحله البعلبكية” انطلاقة الفنان ، وكانت الصيحة الأولى له في عالم الفن.
فمن هذه المرحلة بدأ رفيق شرف محاولته في التعبير الفني عن الواقع المأساوي الذي يحيط به. فهو ابن بعلبك المدينة التاريخية المنسية في سهل البقاع خلف سلسلة الجبال الشاهقة، والبعيدة عن نبض العاصمة. لذلك سوف يختار فناننا موضوعاته من البيئة المحلية. فمن لوحة ” بقايا المائدة” التي رصد فيها قساوة الجوع، إلى لوحة ” دكان أبي” التي حملت في ضميره صورة المورد الاقتصادي الأهم للعائلة والداعم للحياة. ثم لوحة “إلى أين؟” وصيغة التساؤل عن مستقبل المدينة المنسية ومستقبله فيها. شكلت هذه المرحلة الركيزة الأولية في مشروع فنه الطويل.
بعد عودته من دراسته في أوروبا أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، صار في وسع الفنان رفيق شرف التوغل في تقنيات الرسم أكثر آملاً بالحداثة على الساحة الفنية.
وقد ساعدت الأحداث السياسية المتسارعة والحروب على تثبيت هذا اليقين في نفسه، وسوف يبرز ذلك جلياً في مختلف مراحل انتاجه المقبل. فقد جاءت “المرحلة الرمادية” كنتيجةٍ لحساسية فناننا المفرطة، ولقلقه الدائم من المستقبل، وهو يُخيل إليه أنه يعبر عن قلقه الداخلي .
في المدينة، عاش رفيق شرف منغلقاً على ذاته، رافضاً أن يترك الذكريات تتسلل إلى داخله وإلى حياته أو لوحاته. كان تعبير الفنان عن هذه “المرحلة الرمادية” السوداء في لوحة “موت الطيور” ولوحة “انتحار داخلي”. وتلك اللوحتان من أكبر النماذج التي قدمها عن هذه المرحلة.
وقد شكلت منعطفاً ذاتياً في حياته ومسيرته الفنية حيث لازمته السوداوية والكآبة. فكانت موضوعاته عبارة عن كتلٍ صغيرةٍ متناثرةٍ من الخراب الداكن على مساحاتٍ شاسعةٍ تحمل معنىً واحداً هو الفراغ.
أواخر الستينيات بحثت النخب السياسية عن حل لتجاوز الهزيمة السياسية والعسكرية لحرب 67. وقد تجلى ذلك، في الإعلام والأدب بشكل ملفت للنظر ما لبث أن تسلل هذا الفكر إلى مجالات الفنون.
وكان لا بد لرفيق شرف أن يقتحم هذا الميدان وبشكل يوحي بالفرادة. فقد تلقف فكرة المقاومة كردٍ حقيقيٍ لمفهوم الهزيمة، وصاغ منها “أسطورة العنقاء” التي لا تهزم، وعمل جاهداً على تحويل هذه العنقاء -الطائر الذي لا يُطال، إلى رمزٍ متجسدٍ. وهكذا وُلدت تلك المرحلة الفنية التي أطلق عليها النقاد اسم ” مرحلة الطيور” والتي تلقفتها بدورها الصحافة اللبنانية والعربية، وتحولت بسرعه إلى رمزٍ مقاومٍ في دائرة اللوحة الفنية إلى مستوى الرمز السياسي الفني.